هذا جزءٌ من بيت لنصر بن سيار يحذر بني أمية من مغبة الحرب التي رأى نُذُرَهَا، وبداياتها الكلامية، يقول نصر:
أرى خللَ الرماد وميضَ جَمْرٍ ويوشك أن يكون لها ضرامُ
فإن النارَ بالعودين تُذْكى وإن الحربَ مبدؤها كلام
فإن لم يطفها عقلاءُ قومٍ يكون وقودَها جثثٌ وهامُ
فقلت من التعجب ليت شعري أأيقاظ أمية أو نيامُ
وهذه أبيات جميلة غايةٌ في النصح والحكمة.
وأنت إذا تدبرت الأحداث العظام، والحروب الطاحنة عبر التاريخ وجدت أنها كانت بسبب كلام تدرج بأصحابه حتى ألقاهم في مكان سحيق.
بل
ربما يكون السبب يسيراً جداً، بل قد تكون أحداثاً عائليةً بحتةً داخلَ
محيطِ أُسْرةٍ واحدة؛ فتكون سبباً لعداوات كثيرة، من شأنها أن تُغَيِّر
مجرى التاريخ.
ولو استعرضنا التاريخ لوجدنا مصداق ذلك لائحاً
واضحاً؛ فَأَوَّلُ قَتْلٍ حَصَل في الأرض إنما هو قتل أَحَدِ ابني آدمَ
أخاه؛ حيث دار بينهما حديث بيَّنه الله _عز وجل_ في قوله: « وَاتْلُ
عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً
فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنْ الآخَرِ قَالَ
لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ
(27) لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ
يَدِي إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ
(28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ
أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ
نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنْ الْخَاسِرِينَ (30)
فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ
يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ
مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنْ
النَّادِمِينَ (31) مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي
إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ
فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا
فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا
بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي
الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ » (المائدة 27_32).
وإذا انتقلتَ من ذلك
إلى حقب متطاولة، وأتيتَ إلى ما جرى بين يوسف وإخوته وجدتَ شاهد ذلك؛
فالذي حصل في تلك القصة أن إخوةَ يوسف _عليه السلام_ حسدوه؛ لِحَظوته عند
والده؛ فتشاوروا في ذلك الشأن، وأجمعوا على أن يجعلوه في غيابة الجُبِّ
دون أن يفكروا في عاقبة الأمر؛ ودون أن يكون منهم مَنْ يُحذِّر مِنْ
مَغَبَّةِ ذلك الصنيع ومآلاته الوبيلة.
فكان ما كان من تلك الأحداث
العظام التي صارت نقطة تحول في حياة البشرية عموماً، وحياة بني إسرائيل
خصوصاً؛ حيث انتقلوا من بلاد كنعان _فلسطين_ إلى مصر، ثم ما كان لهم بعد
ذلك من الاضطهاد في مصر، إلى غير ذلك مما قصه القرآن الكريم، وورد في صحيح
السُّنة.
ولا يخفى عليك حربُ البسوس، وحربُ داحسَ والغبراءِ، وأنها كانت بأسباب تافهة لا تستدعي سوى غض الطرف.
وإذا
بحثت في أسباب الحروب العالمية الحديثة وجدت أنها حدثت بسبب كلام،
وحماقات، ورعونات لأكابر الساسة؛ فكان عواقب ذلك حروباً طاحنةً أكلت
الأخضر واليابس، وكان وقودُها الأبرياءَ من جميع الأطراف.
وقل مثل
ذلك في كثير من المشكلات والعداوات التي تنشأ بين بعض الناس سواء كانت
كبيرة أو صغيرة؛ إذ هي _غالباً_ شراراتٌ صغيرة لا تزال تكبرُ شيئاً فشيئاً
حتى تكون نيراناً موقدة يصعب إخمادها، والسيطرة عليها.
وهذا ما
يؤكد لنا ضرورةَ الحكمةِ، والمسارعةِ في معالجة الأمور، والحذر من التهاون
في البدايات، والحرص على وأد العداوات في مباديها؛ حتى لا يدفع ثَمَنَها
جميعُ الأطراف.
وقد يكون المانعُ من القيام بتلك المبادرات حواجزَ
وهميةً، وقد يكون العزةَ بالإثم؛ حيث يأبى كل طرف من القيام بذلك أو
قبولـِه؛ عزةً وأنفةً.
وربما ندموا إذا رأوا مآلاتِ الأمور، وعِظَمَ حَجْمِ الخسائر، ولات ساعة مندم.
ولو
أنهم نظروا في العواقب، وتدبروا المآلات، وأصاخوا السمع لداعي الحكمة،
وهبطوا يسيراً من عليائهم، وخفَّفُوا ولو شيئاً قليلاً من غلوائهم _ لكان
خيراً لهم وأحسن تأويلاً، ولكان ذلك أحفظَ لجاههم، وأموالهم، وأوقاتهم من
أن تضيع سدىً.