الفصل الأول: الولاء أو الولاية
التعريف اللغوي:
الولاية بفتح الواو وكسرها تعني النصرة: يقال: هم على ولاية: أي مجتمعون في النصرة (لسان العرب).
والولي والمولى واحد في كلام العرب، ووليك هو من كان بينك وبينه سبب يجعله
يواليك وتواليه أي تحبه وتؤيده وتنصره ويفعل هذا أيضاً معك، والله ولي
المؤمنين ومولاهم بهذا المعنى أي محبهم وناصرهم ومؤيدهم كما قال تعالى:
{الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور}
(البقرة:257)، وقال أيضاً: {ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن
الكافرين لا مولى لهم} (محمد:11) وولي المرأة هو متولي شئونها
كالأب والأخ الأكبر ونحو ذلك، وفي لسان العرب: قال أبو الهيثم:
"المولى على ستة أوجه: المولى ابن العم والعم والأخ والابن والعصبات
كلهم، والمولى الناصر، والمولى الولي الذي يلي عليك أمرك، قال: ورجل ولاء
وقوم ولاء في معنى ولي وأولياء لأن الولاء مصدر، والمولى مولى الموالاة
وهو الذي يُسلم (أي يدخل الإسلام) على يديك ويواليك المولى مولى النعمة
وهو المعتق أنعم على عبده بعتقه، والمولى المعتق (بالبناء للمجهول)
لأنه ينزل منزلة ابن العم يجب عليك أن تنصره وترثه إن مات، ولا وارث له
فهذه ستة أوجه" أ.هـ.
المعنى الشرعي:
وهذه المعاني اللغوية الآنفة كلها ثابتة في حق المسلم للمسلم إلا ما
استثناه النص من ذلك كالميراث مثلاً كما قال تعالى: {وأولوا الأرحام
بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين} (الأحزاب:6)
أي أولى ببعضهم في الميراث من ولاية المؤمنين الآخرين والتي كانت ولاية
الميراث ثابتة لهم في أول عهد الرسول بالمدينة وذلك لفترة محدودة ثم
نسخت. ونستطيع أن نقول أن الولاية الثابتة من كل مسلم لأخيه المسلم تشمل
ما يلي: الحب، والنصرة، والتعاطف والتراحم والتكافل والتعاون، وكف كل
أنواع الأذى والشر عنه، وبعض هذه الأمور الإيجابية يدخل في باب الفرائض
والواجبات وبعضها يدخل في باب المستحب والمندوبات.
وأما الأمور
السلبية وأعين بها كف الأذى فإن بعضها يدخل في باب الكفر والخروج من الدين
وبعضها معصية وبعضها يدخل في إطار المكروهات والتنزيهات، وسنبين كل ذلك
بحول الله وتوفيقه بالنصوص من كتاب الله وسنة رسوله.
(أ) الأدلة على وجوب موالاة المسلم لأخيه المسلم:
الأدلة في هذا الباب أكثر من أن تحصر ونحن نذكر هنا بعضها، فمن الأدلة
القرآنية قوله تعالى: {إنما المؤمنون إخوة} (الحجرات:10) وهذه
الآية قد جاءت بصيغة الحصر أي ليس المؤمنون إلا أخوة، ومفهوم هذا أنه إذا
انتهت الأخوة انتهى الإيمان، وكذلك قوله تعالى: {إن الذين آمنوا
وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك
بعضهم أولياء بعض} (الأنفال:72) وهذا تأكيد من الله جاء بصفة الخبر
وكأنه أمر مستقر مفروغ منه، والمقصود بالأمر بأن يوالي المهاجرون الأنصار
بعضهم بعضا، ثم قال بعد عدة آيات: {والذين آمنوا من بعد وهاجروا
وجاهدوا معكم فأولئك منكم} (الأنفال:75) فأشار إلى أن من يأتي بعد
الرعيل الأول ويهاجر معهم فهم منهم أي قطعة وبضعة منهم، وهذه المعاني نفسها
أكدها الله سبحانه وتعالى في سورة الحشر، ففي ذكر تقسيم الفيء حق لثلاثة
أصناف هم فقراء المهاجرين، وفقراء الأنصار الذين تبوأوا الدار والإيمان قبل
المهاجرين ثم فقراء التابعين إلى يوم القيامة ووصف الله التابعين بصفة
لازمة لاستحقاقهم الفيء وصحة انتسابهم إلى هذه الأمة فقال: {والذين
جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا
تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم} (الحشر:10)
فوصفهم بأنهم يدعون لمن سبق من هذه الأمة بالخير ويطلبون من الله أن لا
يكون في قلوبهم أدنى غل للمؤمنين، ولهذا استنبط الإمام الشافعي في هذه
الآية أن الرافضة لا حظ لهم في أخماس الفيء وذلك لسبهم أصحاب الرسول صلى
الله عليه وسلم وامتلاء قلوبهم بالحقد والغل لهم.
ومن الآيات
الدالة على معنى الولاء أيضاً قوله تعالى: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم
أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة
ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم}
(التوبة:71) وفي هذه الآية تقرير لولاية المؤمنين والمؤمنات واتصافهم
بما وصفهم الله به من أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر.. الخ.
والسنة مليئة بمثل هذه المعاني كقوله صلى الله عليه وسلم: [المسلم أخو
المسلم] (الشيخان وأبو داود والترمذي) وقال أيضاً: [المؤمن
للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً] (مسلم وغيره) وقال: [مثل
المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى
له سائر الجيد بالسهر والحمى] (متفق عليه) وقال أيضاً كما روى
مسلم: [المسلمون كرجل واحد إذا اشتكى عينه اشتكى كله وإن اشتكى رأسه
اشتكى كله] (مسلم والترمذي وأحمد).
وهذه الأحاديث مقررة للمعاني السابقة التي جاءت به الآيات.
أولاً: الحقوق اللازمة من كل مسلم لأخيه المسلم:
(1) الحب:
يدل لهذا قوله صلى الله عليه وسلم: [لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه] (الشيخان والترمذي والنسائي وغيرهم).
وهذه أدنى درجات المحبة والمقصود أن كل مسلم يجب عليه أن يحب لأخيه من خير
الدنيا والآخرة ما يحبه هو لنفسه ولا يمكن أن يحصل هذا إلا بأن تحب الشخص
لأنك لا تحب الخير لمن تكره.
ولا
يتصور أن تحب الخير إلا لمن تحب، وهذا الواجب قد تناساه وأهمله اكثر
المسلمين في زماننا بل لا نكاد نجد إلا قليلاً ممن يحبون إخوانهم المسلمين
حباً دينياً حقيقياً مجرداُ عن الهوى والمصلحة والعصبية، وبالرغم من أن هذه
المنزلة -أعني محبة المسلم لأخيه المسلم- م
ن
لوازم الموالاة فإنه أيضاً باب عظيم من أبواب الخير في الآخرة والشعور
بحلاوة الإيمان في الدنيا كما جاء في الصحيحين في شأن السبعة الذين يظلهم
الله بظله يوم لا ظل إلا ظله ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم:
[رجلين تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه] (متفق عليه)
وكذلك جاء في الصحيحين قوله صلى الله عليه وسلم:
[ثلاث من وجدهن وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه
مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا الله، وأن يكره أن يعود في الكفر
بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار] (البخاري ومسلم
والترمذي والنسائي وغيرهم).
وقد يظن ظان أن المحبة عمل قلبي ولا
يستطيع الإنسان التحكم فيه فكيف يرغم على محبة المسلمين؟! والجواب أن
هذا خطأ لأن القلب تابع للعقيدة والإيمان فمن آمن بالله وأحبه فلابد أن يحب
من يحب الله، والمسلم مفروض فيه أن يحب الله ويطيعه ولذلك وجب علينا محبة
المسلم لمحبتنا الله ولدينه، بل لا يمكن أن يتصور إيمان أصلاً دون أن يحب
المسلمون بعضهم بعضاً، كما قال صلى الله عليه وسلم:
[لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟
أفشوا السلام بينكم] (مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجة).
وهكذا نعلم أنه لا إيمان قبل المحبة، وقد أرشدنا رسول الله صلى الله عليه
وسلم إلى سبيلها وهي إفشاء السلام لأنه أدنى معروف من الممكن أن يبذله
المسلم لأخيه المسلم وهو لا يكلف أكثر من كلمة طيبة تتضمن دعاء وطلباً من
الله بالسلامة والعافية من كل شر والرحمة لمن تسلم عليه.
ولا شك أن
الدعاء والتمني على هذا النحو يرقق القلب ويشعر بمحبة المسلم لأخيه المسلم،
فأين المسلمون اليوم من تطبيق هذه الجزئية في هذا الأصل الشرعي
"الموالاة"؟
(2) المجاملة:
وهي تضم حقوقاً خمسة واجبة جمعها النبي في حديث واحد كما قال صلى الله عليه وسلم: [حق المسلم على المسلم خمس:
رد السلام، وتشميت العاطس، واتباع الجنازة، وعيادة المريض، وإجابة الدعوة
] (متفق عليه)، ومعنى تشميت العاطس أن تقول له إذا سمعته يحمد الله
بعد عطاسه: "يرحمك الله" فيرد عليك "يهديكم الله ويصلح بالكم"،
وأما إجابة الدعوة فالمقصود إجابة دعوة الطعام حتى وإن كره الإنسان الحضور
لقوله صلى الله عليه وسلم:
[ومن لم يحب الداعي فقد عصا أبا القاسم] (مسلم وأبو داود وابن ماجة)
وفي البخاري قال النبي صلى الله عليه وسلم:
[ولو دعيت إلى كراع لأجبت] والكراع هو رجل الماشية، وهذه الحقوق
الخمسة الآنفة من باب المجاملات اللازمة الواجبة من كل مسلم على أخيه
المسلم.
(3) النصرة:
وهي تعني
أن يقف المسلم في صف إخوانه المسلمين فيكون معهم يداً واحدة على أعدائهم
ولا يخلي بتاتاً -ما استطاع إلى ذلك سبيلاً- بين مسلم وعدوه ويدل لهذا
المعنى آيات وأحاديث كثيرة منها قوله تعالى:
{وما لكم لا تقاتلون
في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا
أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك ولياً واجعل لنا من
لدنك نصيراً} (النساء:75) وقد جعل الله هنا القتال في سبيل تخليص
المسلمين المستضعفين قتالاً في سبيله ونصراً له سبحانه وتعالى، وقال صلى
الله عليه وسلم: [انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً] (الشيخان والترمذي
وأحمد)، وقد فسر صلى الله عليه وسلم نصر الأخ ظالماً بأن ترده عن الظلم
وأما نصره مظلوماً فمعناه رد الظلم عنه، ومثل هذا المعنى أيضاً قوله صلى
الله عليه وسلم:
[المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه] (البخاري ومسلم والترمذي وغيرهم) ومعنى أن يسلمه أي يخلي بينه وبين أعدائه.