الصاحب المواتي
أنشد مخارق عند المأمون قول أبي العتاهية:
عذيريَ في الإنسان ما إن جفوته
صفا ليْ ولا إن صرتُ طوع يديه
وإني لمشتاقٌ إلى ظلِّ صاحبٍ
يروق ويصفو إن كدرت عليه
فقال المأمون: أعد، فأعاده سبع مرات، فقال المأمون:
يا مخارق خُذْ مِنِّي الخلافةَ، وأعطني هذا الصاحب.
ويقول الشافعي :
أحب من الإخوان كلَّ مُواتِ
وكل غضيض الطرف عن عثراتي
يوافقني في كلِّ أمرٍ أحبه
ويحفظني حياً وبعد مماتي
فمن لي بهذا ليت أني لقيته
فقاسمته مالي من الحسنات
فيا
ترى ما الذي حدا بالمأمون أن يُؤْثِرَ هذا الصاحب على الخلافة؟ وما الذي
جعل الشافعي يبحث عن هذا الصاحب الذي يتمناه، ويستبعد لقياه، ولا يمانع في
أن يُشْرِكَهُ معه في حسناته وهي أغلى ما يملك؟
لعله الصاحب المواتي
الذي لا تتكلف في معاملته، ولا تتأذى من حديثك معه، ولا تخشى بادرةَ
غَضَبِه إن أخطأت في حقه، ولا تخاف من سوء ظنه إن قلت كلمةً محتملة.
وهو كذلك الذي يحفظك في غيبتك وحضورك، ويحسن الاستماع إذا تحدثت إليه، ويحسن الحديث إذا حدثك.
وهو
الذي يوافقك بصدق، ويخالفك بلطف، ويرضيه اليسير من برك، ويصبر على الكثير
من جفائك، ويَقْبَلُكَ على عِلاَّتك، ويغض الطرف عن عيوبك.
فهذا هو
سلوة الروح، وقرة العين، والنعيم المعجل، فإذا ظفرت به فاشدد يديك به، وعض
عليه بالنواجذ، وثنِّ عليه بالخناصر؛ فإنه المسك الأذفر، والكبريت الأحمر.
قال أبو هلال العسكري :
رأيت بالود عن القربى غنى
وليس بالقربى عن الود غنى
وصاحب الصدق حسامٌ منتضى
يزين في السلم ويكفي في الوغى
وقال:
ليس حدُّ الحسام أكفى وأغنى
من أخ ذي كفاية وغَناء
وأخ المرء عصمةٌ في بلاء
يعتريه وزينة في رخاء
ومن أبلغ ما قيل في إرضاء الرجل عن صاحبه قول الراجز:
لم أَقْضِ مِنْ صُحبة زيدٍ أَرَبي
فتىً إذا نبهته لم يغضبِ
أبيضَ بسامٍ وإن لم يُعْجَبِ
ولا يضن بالمتاع المحقبِ
موكل النفس بحفظ الغيب
أقصى رفيقين له كالأقرب
فما أشد حاجة الإنسان في هذه الدنيا إلى مثل أولئك، وما أعظم سروره بهم، وما أشد حسرته إذا فقدهم.
قال الإمام الشافعي : لا سرور يعدل صحبة الإخوان، ولا غمَّ يعدل فراقهم، والغريب من فقد إِلْفَه، لا من فقد منزله، وأنشد:
واحسرةً للفتى ساعة
يعيشها بعد أودَّائه
عمر الفتى لو كان في كفه
رمى به بعد أحبائه
وقال
الأستاذ محمد كرد علي : المرء يحتاج إلى أصحاب في فرحه وترحه، وفي حَلِّه
ومُرتحله، يحتاج أبداً إلى من يأنس إليهم، ويأنسون إليه، ويبادلهم
الأفكار، ويُجيل معهم الرأي.
ولا تضره كثرتهم بقدر ما يضره سوء اختيارهم.
وليس أشقُّ على المتصادقين من عدم المشاركة في التربية والعقل